
الدكتورة باميلا شرابيه
ولدتُ ونشأتُ وقتَ الحرب في لبنان، وقد ساهمت هذه التجربة في تكوين هويّتي، كما هي الحال مع معظم المواطنين اللبنانيّين. ولولا حبّ أهلي وانفتاحهم على الآخر، وخبراتي ودراساتي في الحوار الدينيّ والثقافيّ والإنسانيّ، لكنت من عداد الذين يعيشون في غيتوهات الهويّات المتصارعة – كما وصفها الروائيّ أمين معلوف[1] -، ويؤمنون في الصفحة البيضاء ومنافع فقدان الذاكرة الفرديّة والجماعيّة. قد تعلّمت بناء السلام من خلال فعل السلام وهذا الفعل في الأوساط الرسميّة وغير الرسميّة دفعني إلى إنتاج معرفة عن السلام ومنهج تعليميّ في السياق الجامعيّ.
وفقًا لإيان م. هاريس، تشير التربية على السلام “إلى المعلّمين الذين يدرسون السلام: ما هو عليه، لماذا لا وجود له، وكيفيّة تحقيقه. ويشمل ذلك تدريس تحدّيات تحقيق السلام، وتطوير المهارات اللاعنفيّة، وتعزيز المواقف السلميّة. إنّ للتربية على السلام أربعة مبادئ رئيسيّة: 1) أنّها تفسّر جذور العنف؛ 2) تعلّم بدائل للعنف؛ 3) السلام نفسه هو عمليّة تختلف وفقًا للسياق. 4) الصراع في كلّ مكان”[2]. في مقال آخر، يشرح هاريس وجهة نظره من خلال القول بأنّ التربية على السلام “تستمدّ من فطرة الإنسان للعيش بسلام مع الآخرين، وتؤكّد القيم السلميّة التي يجب أن يقوم عليها المجتمع، وتمكّن المعلّمين من استخدام مهاراتهم المهنيّة لتعليم طلّابهم على السلام”[3].
وقد أعرّف التربية على السلام بالآتي: تتكوّن هذه التربية من مقاربات تربويّة ضمن منهاج يعتمد في المدارس والجامعات ومبادرات من قبل أفراد وجماعات غير معنيّين في النظام التعليم الرسميّ الخاصّ والعامّ. وتهدف هذه التربية إلى صقل معرفة ثقافة السلام وممارساتها. لا يستطيع المدرّسون فعل الكثير في الصفّ لأجل تخفيف أسباب الحرب الاقتصاديّة والسياسيّة، ولكن يمكنهم أن يساهموا في ضبط العوامل النفسيّة التي تدعم العنف، وفي تفكيك الأحكام المسبقة، وفي تفعيل الحوار وتعزيز الاحترام المتبادل وبناء الجسور بين الفوارق. تولد الحروبُ في العقل البشريّ ومن هنا أهميّة التربية على السلام التي تؤدّي دوراً في تغيير العقليّة، كما جاء في الميثاق التأسيسيّ لليونسكو:”لمّا كانت الحروب تتولّد في عقول البشر، ففي عقولهم يجب أن تُبنى حصون السلام”.[4]
إنّ التربية على السلام في لبنان مدعومة من قبل منظّمات غير حكوميّة، كما من قبل بعضهم في القطاع الفنيّ والثقافيّ، ولبنانيّين في المهجر. وثمّة بعض المبادرات في المدارس مثل نشاطات فنيّة ومخيّمات صيفيّة. وتعتبر التربية على السلام ظاهرة نادرة في الإطار الجامعيّ. هناك استثناءات بحيث يتمّ ربط التربية على السلام بالحوار بين الأديان كما في جامعة القدّيس يوسف. ويتّفق جميع الأفرقاء على ضرورة تعميم ثقافة السلام، خاصّةً في وضع يغيب عنه أيّ مشروع وطنيّ لبناء ذاكرة حرب مشتركة ونشر كتاب تاريخ لبنان موحّد يعتمد في المدارس وكسر حلقة الحرب وبناء سلام مستدام.
وقد بيّنت نتائج أبحاثي في الأوساط الجامعيّة والمدرسيّة في لبنان (٢٠٠٤-٢٠١٤) أنّ الأجيال الصاعدة تحتاج إلى اهتمام خاصّ بصفتها الأجيال التي ترث تجربة العنف وتحوّلها إلى معرفة تاريخيّة مطلقة – وهنا يكمن خطر توظيف التاريخ، هذا الأمر الذي حذر منه المؤرّخ بينجامين ستورا في كتابه عن الاستعمار الفرنسيّ في الجزائر. ففي نظر ستورا، تستعمل أفكار من الماضي من دون إعادة النظر فيها ويتحكّم سياسيّون فيها ويبقون مخيال المجتمع مُرتبطًا بها، ويحافظون إذاً على نمط واحد من هذا المخيال[5]. من هنا يمكن الماضي أن يجمد وسلسلة الانتقام أن تخلّد ضمن أسطورة راسخة. إنّ التربية على السلام تساعد على أن يستوعب الماضي في تعقّده التاريخيّ وعلى توسيع فسحات العيش المشترك وإكثارها.
قد كوّنتُ منهجًا تربويًّا يُعنى بالسلام في كندا ولبنان والإمارات. وقد فعّلت نظريّة بناء السلام من خلال نشاطات مختلفة مثل ورش عمل لحلّ النزاعات، ورحلات ميدانيّة ومشاريع إعلاميّة رقميّة وأعمال فنيّة عن الحرب والسلام ولقاءات حواريّة إلخ. – نشاطات تساهم في عمليّة اختبار الغير المألوف والاحترام المتبادل وإدارة التنوّع[6]. وقد عبّر الكثير من الطلّاب عن اكتسابهم معرفة بديلة في جوّ مؤاتٍ للحوار، ساعدهم على تطوير فكرهم النقديّ واكتساب مهارات الحوار مثل الاستماع النشط وشجّعهم على التعاون. وأكّد طلّاب في لبنان أهميّةَ قبول الآخر والعمل بوجهٍ متضافر للوصول إلى وجهات نظر متقاربة، وقد أصبح أكثر من ١٥٪ من هؤلاء نشطاء من أجل السلام.
من الطبيعيّ أن تتطوّر هذه التربية مع الخبرات المتراكمة وتتنوّع تطبيقاتها بحسب السياق. فالتربية على السلام في كندا تختلف عن التربية في لبنان وأيضاً عن التربية في الإمارات. في الحقيقة، هناك بعض التحدّيات والصعوبات المشتركة لدى المهتمّين بهذا المجال. من هذه التحدّيات: أوّلاً الربط بين المحلّية والعالميّة في تكوين هويّات الطلّاب، وثانياً، أخذ مبادرات وروايات الطلّاب الفرديّة بعين الاعتبار. أمّا عن الصعوبات فتكمن في عدّة قضايا أساسيّة، منها: العقبات السياسيّة والاقتصاديّة؛ والاعتقاد السائد في المجتمع اللبنانيّ أنّ الحرب وسيلة مشروعة من أجل تحقيق مصلحة الوطن والجماعات والأحزاب وحمايتها؛ ومعرفة قليلة بالخيارات والبدائل المتعدّدة لحالة العنف؛ واعتبار السلام حالة مثاليّة، غير واقعيّة؛ والتربية على السلام شأنًا معزولًا وليس خيرًا عامًّا.
* أستاذة علوم الشرق الأوسط في الجامعة الأميركية في دبي؛ باحثة، كاتبة، فنّانة وناشطة اجتماعيّة.
[1] Amin Maalouf, Les identités meurtrières, Grasset, 1998.
[2] Ian M. Harris, “Peace Education Theory”, Journal of Peace Education, Volume 1, Number 1, 2004, p. 6
[3] Ian M. Harris, “Peace Education: Definition, Approaches and Future Directions”, in Peace Studies, Public Policy and Global Security, Volume II, edited by Ursula Oswald Spring, Ada Aharoni, Ralph V. Summy and Robert Charles Elliot, EOLSS Publications, 2010, p. 283.
[4] (in Arabic). http://unesdoc.unesco.org/images/0022/002269/226924a.pdf
[5] Benjamin Stora, Algeria, 1830-2000: A Short History, Cornell University Press, 2004.
[6] For more information about my Peace Education approach and activities:https://pamelachrabiehblog.com/my-pedagogy-peace-education/
SOURCE: EL MACHREQ ONLINE – ST JOSEF UNIVERSITY, BEIRUT-LEBANON
http://www.darelmachreq.com/ar/desc-almachreq-cat/284